الايديولوجيا: سؤال المعنى والوظائف.

saidchanoukome13 أبريل 2022آخر تحديث : منذ سنتين
saidchanoukome
أخبارثقافة وفن
الايديولوجيا: سؤال المعنى والوظائف.

بقلم عبد الرحيم الراجي استاذ باحث في سلك الماستر بكلية الاداب جامعة محمد الخامس بالرباط.20220413 105021 scaled - شأنكم Tvtree 1704773 1920 - شأنكم Tv
انتشر مفهوم الإيديولوجيا خلال القرن الثامن عشر على أساس أنه ضرب من التفلسف، جاء بغرض رفض التفكير اللاهوتي الكنسي والانتقال إلى تفسير الأفكار على أساس أنها مشتقة من الاحساسات، أي تفسير الظواهر الثقافية بالاعتماد على المنهج العلمي التجريبي بغرض بناء نسق فكري متحرر من الآراء المسبقة والأساطير ومتمتعا بيقين علوم الطبيعة.
وإذا كانت جل الكتابات تؤكد بأن كلمة “إيديولوجيا” من المصطلحات أو المفاهيم الأساسية التي بدأ استعمالها مع الفيلسوف وعالم الاقتصاد السياسي الفرنسي أنطوان ديستوت دو تراسي (Antoinne Destutt de Tracy) في القرن الثامن عشر، بحيث دلّت في منجزه”عناصر الإيديولوجيا” على “علم الأفكار” فهذا لا يعني بأنه لم يكن من دي قبل ما يناظر أو يماثل ذلك في الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية . فإذا كان علم الأفكار يفيد الطريقة أو المنهج الذي يساعدنا على بناء المعرفة، فسنجد بأن “المنهج الاستقرائي” عند أرسطو و فرانسيس بيكون ، قد ظهر قبل القرن الثامن عشر واستعمل كآلية لبناء المعرفة الإنسانية، وإذا كانت الإيديولوجيا تؤدي وظيفة الإدماج والاصلاح والتعبئة كما يقول بول ريكور وجان بيشلر فسنجد بأن”مفهوم الدعوة” قد وظف مع الغزالي و واصل بن عطاء في القرنين الرابع والخامس الهجريين لتحقيق مهمة الإدماج والاصلاح في المجتمع العربي الإسلامي. إذن مصطلح الإيديولوجيا كان له حضور بصيغ أخرى وأدت هذه الصيغ الوظيفة أو الدور المطلوب. مع ذلك تبقى كلمة الإيديولوجيا – في نظر عبد الله العروي – دخيلة على جميع اللغات الحية، لذلك اقترح في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا” بأن يتم تعريب الكلمة فتصبح “أدلوجة على وزن أفعولة، ومنها: أداليج أو أدلوجات، وأدلج إدلاجا، وأدلوجي أو أدلوجيّون، ويقال نظر الرجل إلى الشيء نظرة أدلوجيّة: ينتقي الأمور ويحسن تصريف الأشياء والوقائع بصورة تطابق الواقع باعتقاده”.
1- الإيديولوجيا من منظور المفكرين الغربيين و العرب:
يعد مفهوم الإيديولوجيا من المفاهيم الأساسية التي أثارت ولازالت تثير اهتمام العديد من فلاسفة الفكر السياسي وعلماء الاجتماع وغيرهم من الباحثين والمهتمين بالإصلاح السياسي في أوربا وتجديد الفكر الديني في العالم العربي والإسلامي. في هذا الخضم، سنحرص بشكل موجز على عرض بعض التعاريف التي من شأنها أن تساعدنا على معالجة الأسئلة التي يطرحها موضوع مسار التأويل الإيديولوجي للنص الديني عند المفكرين العرب، وحيث أن مفهوم الإيديولوجيا كان له حضور لافت ومتميز عند كارل ماركس وأتباعه ومنتقديه، فإننا سنعمل على تتبع سيرورة المفهوم ودلاته من خلال العودة إلى كتابات هؤلاء المفكرين. إذن ما هو المعنى الذي أعطاه ماركس للإيديولوجيا في كتابه المعنون (بالإيديولوجيا الألمانية) ،الذي أنجزه بتعاون مع عالم الاقتصاد السياسي فردريك إنجلز سنة 1845م؟.
يعد كارل ماركس (Karl Marx)من أبرز الفلاسفة الألمانيين الذين استعملوا مفهوم الإيديولوجيا بعد المفكر الفرنسي أنطوان ديستوت دو تراسي، في هذا السياق عرّف الرجل الإيديولوجيا بكونها “وعيا زائفا” لأنها لا تعكس الواقع الاجتماعي الحقيقي للإنسان في النظام الرأسمالي كنموذج، مبرزا بأن “مجموع الأفكار والتصورات والقوانين التي أتى بها لا تخدم إلا مصالح الطبقة البورجوازية والليبراليون الذين شجعهم النظام الفلسفي الهيغلي ” من خلال الدعوة إلى تبني الأفكار والمبادئ التي أتت بها الثورة الفرنسية سنة 1789 ، والتي تتلخص في: إلغاء الملكية المطلقة وتشجيع الملكية الخاصة، وإقرار الحكم المدني والديموقراطية والعلمانية …إلخ
و إذا كان مصدر “الوعي الزائف” هو العقل المثالي أو الروح كما تكلم عن ذلك هيغل فإن مصدر الوعي الحقيقي في نظر ماركس هو الواقع الاجتماعي المادي إذ يقول موضحا “الحياة الواقعية هي التي تحدد وعي الإنسان… وهذا يبين بأن ماهية الأفراد تتوقف على شروط إنتاجهم المادية”. إذن، كارل ماركس قدم مفهوم الإيديولوجيا على أساس أنه مفهوم سلبي مشوه ومضلل للواقع.
لقد سايرالفيلسوف الألماني فردريك نتشه (1844 – 1900) التصور الذي ارساه كارل ماركس لمفهوم الإيديولوجيا، من حيث التأكيد على الفكرة القائلة بأن العقل لا يمكن أن يكون مصدر الوعي والحقائق وبأن الحقائق التي انتهى إليها الإنسان لا تعدو أن تكون أوهاما ليس إلاّ، إذن الإيديولوجيا في الفلسفة النتشوية هي “مجموعة من الأوهام والتعليلات والحيل التي يعاكس بها الإنسان- الضحية قانون الحياة”، إنها مجموعة من القيم والمعتقدات التي يحتمي بها الضعفاء (العبيد) من اعتداء الأقوياء (الأسياد) نظرا لعدم قدرتهم على مواجهتهم بالقوة، ويشير نتشه بأن التخلص من الوهم أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، على عكس الخطأ الذي يمكن تصيحه، لأنه ينتج عن سوء استخدام العقل.
أما عالم الاجتماع كارل مانهايم (1893 – 1947م) فقد انتقد التصور الماركسي للإيديولوجيا نظرا لارتباطها بطبقة معينة من البرولتاريا مؤكدا من منظور علم الاجتماع المعرفة أنه “لا يمكن الحديث عن الإيديولوجيا بوصفها آراء وأقوال وقضايا ومذاهب من دون العودة إلى البيئته الاجتماعية”، موضحا كذلك بأن المعرفة (الإيديولوجيا) لا تصدر عن مجرد فرد أو أفراد بل تصدر عن أناس يعيشون في جماعات ويمارسون نشاطات اجتماعية. إذن الطبيعة الجمعيّة هي التي تفرز في نظر كارل مانهايم (Karl Mannheim)نوع العلم أو نمط التفكير في كل مرحلة تاريخية .
إذن ارتباطا بالبراد يغم السوسيولجي الذي يستحضر تأثير المجتمع والبيئة الاجتماعية في تحديد المعرفة ، قدم مانهايم من خلال الفصل الثاني من كتابه (الإيديولوجيا و اليوتوبيا: مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة) تحديدين أو معنيين أساسيين للإيديولوجيا:
– الإيديولوجيا بمعناها الخاص (المعنى الجزئي للفظة الإيديولوجيا): وهي التي تتعلق بمفهوم الأفراد وتبريراتهم للمواقف التي تهدد مصالحهم الخاصة إذ يقول كارل مانهايم موضحا:” تدل كلمة إيديولوجيا على أننا نتخذ موقفا متشككا تجاه الأفكار والتصورات التي يتقدم بها خصمنا”. – أما لإيديولوجيا بمعناها العام ( المعنى الكلي للفظة الإيديولوجيا): فهي التي ترتبط بالتفكير السائد في عصر ما أو داخل طبقة اجتماعية ما كما هو الحال بالنسبة لنمط التفكير السائد لدى الطبقة البرجوازية التي تسهر على بلورة الوعي الذي يدعو إلى الاستقرار والسلم الاجتماعي لضمان استمرارية الاستفادة من الامتيازات التي يؤمنها الواقع السياسي والاقتصادي داخل النظام الرأسمالي، في مقابل ذلك يمكن الحديث على نمط التفكير السائد لدى الطبقة البرولتارية التي تدعو إلى بلورة وعي ثوري لتغيير الواقع الاجتماعي و السياسي والانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي.
في سياق توضيح تأثير العامل الاجتماعي في تحديد معنى الإيديولوجيا، أبرز كارل مانهايم بأن أفكار وتصورات الأفراد والطبقات الاجتماعية تتحدد وفق ما يفرضه الواقع الاجتماعي وهذا ما أقره كارل ماركس من دي قبل في كتابه (بؤس الفلسفة) إذ قال موضحا: “ليست الأفكار والمقولات الاقتصادية سوى التعبيرات النظرية أو الذهنية لعلاقات الانتاج الاجتماعية”.
أخذا بتصور كارل مانهايم لمفهوم الإيديولوجيا، يمكننا أن نميز في أي مجتمع طبقي بين أيدولوجيتين: – إيديولوجيا الجماعات الحاكمة، التي تريد فرض رؤيتها أي تصوراتها وأفكارها على بقية أفراد المجتمع، وتبرير الأوضاع الراهنة والدفاع عنها. – إيديولوجيا الجماعات الخاضعة، التي تحاول إصلاح أو تغيير النظام الاجتماعي القائم من خلال الدعوة للاصطلاح وفق رؤيتها.
اذا كنا قد تعرفنا فيما سبق عن الإيديولوجيا عند المفكرين الغربيين، فما هو مدلولها أو معناها عند المفكرين العرب أمثال عبد الله العروي ونديم البيطار وغيرهم؟
لقد عرّف عالم الاجتماع اللبناني نديم البيطار الإيديولوجيا من خلال منجزه “الإيديولوجيا الانقلابية” بالقول:” الإيديولوجيا هي أية فلسفة حياة تفسر علاقة الإنسان بالمجتمع والتاريخ، تفسيرا عامّا وشاملا…” تعريف البيطار للإيديولوجيا يتضمن بعدا إيجابيا يتجسد في الحكم عليها بأنها فلسفة حياة تفسر نظرتنا للإنسان ولعلاقته بالمجتمع والتاريخ بوصفه شرطا اجتماعيّا واقتصاديّا يؤطر الوجود الإنساني. السؤال المطروح الآن: ما هو التعريف الذي ساقه لنا عبد الله العروي باعتباره كذلك مفكرا عربيا اهتم البحث في مفهوم الإيديولوجيا من خلال العودة إلى كتابات كارل ماركس وفردريك نتشه
في الفصل التمهيدي من “كتاب مفهوم الإيديولوجيا”، أبرز عبد الله العروي ملاحظة أساسية أقرّ من خلالها أنه وجد في العلوم الإسلامية لفظة لعبت دورا محوريا كالدور الذي تلعبه اليوم كلمة إيديولوجيا، وهي لفظة (الدعوة) مبرزا بأنه من المستحيل إحياؤها والاستعاضة بها عن كلمة إيديولوجيا لأنها أصبحت في تقديره كثيرة الاستعمال والانتشار . بعد ذلك انصرف العروي إلى إعطاء أربع تحديدات “لمفهوم الأودلوجة أو الإيدلوجيا، مبينا بأن كل معنى أو استعمال مرتبط بمجال معيّن ومفاهيم محددة” وتتلخص هذه التحديدات فيما هوميّن أسفله:
المعنى الأول، الإيديولوجيا كقناع : الإيديولوجيا كقناع ترتبط في غالب الأحيان بالمجال السياسي وتخفي مصلحة ما عند طبقة ما أو فئة ما، إذ يتم في هذه الحالة، رفع شعار ما ، ولكن يتم في الوقت ذاته، إخفاء مصلحة ما بحيث يكون المأمول هو الوصول إلى تلك المصلحة أو المنفعة بأية طريقة، إننا أمام القاعدة المكيافلية التي تقول بأن “الغاية تبرر الوسيلة” لأنه لا يوجد في السياسة عدو دائم ولا صديق دائم ، ففي الربيع العربي مثلا كانت الكثير من القوى العلمانية العربية مع الثورة ، ولكن حينما نجحت الثورة، وأعطت الفرصة لصعود الإسلامين كما حصل في الثورة المصرية والتونسية ،تنكّرت القوى العلمانية العربية للديموقراطية كاختيار سياسي، وهذا كشف قناع المصلحة عند هذه القوى، هؤلاء كانوا مع الديموقراطية لتوصلهم إلى السلطة ، لكن حينما وصل غيرهم ،أدى ذلك إلى التراجع عن الديموقراطية. إذن المناداة بالديموقرطية كاختيار سياسي لتدبير شؤون الدولة هو محكوم بخلفية إيديولوجية أو قناع ليس إلاّ.
المعنى الثاني، الإيديولوجيا كرؤية كونية: الإيديولوجيا كنظرة كونية أو رؤية فلسفية ، تتلخص في كونها نظرة إلى المجتمع و الإنسان والكون، يقدمها الفيلسوف والمؤرخ وغيرهم من المهتمين بالمجال الثقافي بالاعتماد على مقولات ومناهج فلسفية تنسجم مع نوع البراديغمات التي تؤطر تفكيرهم و رؤيتهم إلى الإنسان والمجتمع والكون(….). وفي هذا السياق ، وضح عبد الله العروي “أن فردريك هيغل فسر رؤيته الفلسفية للكون من خلال المراهنة على مقولة الروح (العقل) المحرك للتاريخ أما ماركس فقد فسرها من خلال الاحتكام إلى مقولة الإنتاج المادي أي البنية التحتية التي تحدد البنية الفوقية من حيث هي قوانين وأفكار فلسفية ومعتقدات دينية وأعمال فنية (…)”.
المعنى الثالث، الإيديولوجيا كطريقة في التفكير: في الفصل الخامس من كتاب (مفهوم الإيديولوجيا) ، تحدت عبد الله العروي عن الإيديولوجيا على أساس أنها منهج أو طريقة في التفكير، توظف لمعرفة الظواهر في مجال العلوم الإنسانية ، مبيّنا بأن المعرفة أو الوعي الذي تنتهي إليه الطبقة البرجوازية يظل وعيا محسوسا وجزئيا و غير مواكب للواقع، لأنها لا تعتمد في الوصول إليه على المنهج المادي التاريخي كما أسس له كارل ماركس وجورج لوكاتش وغيرهم، وللإشارة فهذا المنهج هو الذي يمكننا ،حسب وجهة نظرعبد الله العروي، من بناء وعي بروليتاري موضوعي يقوم على مبدأ ” إدراك الذات بنقد الموضوع، أو إدراك الكائن بنقد الظاهر”
المعنى الرابع، الإيديولوجيا كمورث ثقافي: الإيديولوجيا كمورث ثقافي هي مجموعة من الأفكار والقيم والمعتقدات التي تؤثر في تفكير الإنسان وتصوره لذاته وللكون والله. للتوضيح فهذا الموروث الثقافي يرثه الإنسان عن الماضي وغالبا ما يتم إحضار الماضي بهدف فهم الحاضر وبناء المستقبل. إذن الإيديولوجيا بهذا المعنى، تحيل إلى حد ما على التراث وعلى كل ما ينقل من أفكار وعلوم وفنون ونحوها من جيل إلى جيل.
2- وظائف الإيديولوجيا والأجهزة الإيديولوجية:
من أجل تعميق فهمنا لمعنى الإيديولوجيا وفهم دلالتها المتعددة، سوف ننتقل مع المفكر الهيرمنوطيقي بول ريكور(1913 – 2005) إلى رصد معنى الإيديولوجيا من زاوية التركيز على أهم الوظائف التي تؤديها داخل المجتمع، وسنختم رصدنا للمفهوم بالتطرق إلى الأجهزة الإيديولوجيا مع الفيلسوف لويس ألتوسير. في هذا الاتجاه، كشف بول ريكور (Paul Ricœur) من خلال كتابه ” من النص إلى الفعل: أبحاث التأويل” عن وجود ” ثلاث وظائف أساسية للإيديولوجيا”، يمكن تلخيصها في النقط الآتية: أ- وظيفة تزييف أو تشويه الواقع: وتتمثل في توظيف الإيديولوجيا كآلية لتزييف وتشويه الواقع أي إنتاج صورة معكوسة أو مقلوبة عن الواقع ، وهذا هو المعنى الشائع لكلمة إيديولوجيا الذي انتشر بين العموم بفضل كتابات كارل ماركس ،إذن الإيديولوجيا بهذا المعنى لها مدلول سلبي مفارق للواقع. ب – وظيفة تبرير الأوضاع القائمة: على هذا المستوى لا تظهر الإيديولوجيا كآلية للتزييف والتشويه فقط، بل أكثر من ذلك إنها أداة أو آليه للتبرير وتتجسد هذه الوظيفة عندما تتحول أفكار الطبقة المسيطرة في المجتمع إلى أفكار مهيمنة تدعي الكونية والشمولية…إلخ. ج – وظيفة إدماج الأفراد في هوية الجماعة: تعد وظيفة الإدماج من الوظائف الأكثر أهمية من الوظيفتين السابقتين( وظيفة التزييف والتبرير)
في مقابل ماكشف عنه بول ريكور بخصوص الوظائف الثلاث، بحيث ظل على مستوى موقفه متأثرا إلى حد ما بالرؤية الماركسية التي نظرت إلى الإيديولوجيا من موقع أنها وعيا زائفا وتبريريا ولا يعكس الواقع، نبّهنا عالم الاجتماع الفرنسي جان بيشلر إلى “أن الإيديولوجيا أضحت تؤدي وظائف أساسية ومتنوعة في المجال السياسي ، يمكن تلخيص البعض منها كما يلي”: – وظيفة التجمع أو التعبئة السياسية: السياسة في نظر جان بيشلر تهتم بحفظ الأمن الخارجي وبضمان التلاحم الداخلى بحجة أن الحياة الإنسانية مهددة دائما بالصراع والفوضى، نظرا لوجود التنافس بين الإنسان وأخيه الإنسان على كل ما هو مادي ونفعي، كما أخبرنا بذلك جون جاك روسو من خلال قوله:” لقد بدأ الصراع عندما سيج أول إنسان قطعة من الأرض فقال هذا ملك لي”. بناء على ما تمت الإشارة إليه أكد بيشلر بأن الإيديولوجيا هي الآلية الوحيدة التي تمكن رجل السياسة من تعبئة الناس من أن يكونوا أصدقاء أو أعداء. الإيديولوجيا كذلك هي التي تحرك في الأفراد مشاعر الوحدة والتضامن والاندماج داخل الجماعة مثل تعبئة وتربية الأفراد على الشعور بالانتماء الوطني والقومي. – وظيفة تبرير السلطة وممارستها: تعد وظيفة تبرير السلطة وممارستها من أهم الوظائف السياسية للإيدلوجيا، إذ يتم اعتمادها من طرف الفاعلين السياسيين لتبرير ما يقومون به عوض اللجوء إلى العنف والقهر في فرض سلطتهم، وهذا التبرير غالبا ما يوجه حسب تصور جان بيشلر للمتعاطفين وللأنصار المحتملين، ولكي يتحقق هذا التبرير، يجب إعطاء أدلة مقنعة للأنصار والمتعاطفين لجعلهم يختارون هذا المعسكر الإيديولوجي بدل الآخر. كل هذا يكشف بأن للإيديولوجيا أوجه إيجابية في الحياة الاجتماعية والسياسية. – وظيفة التعيين: وتتلخص في كون الإيديولوجيا تسمح للفاعل السياسي باختيار أو تعيين القيم التي على أساسها، يمكن إقامة نظام اجتماعي معين مثل النظام البرلماني الذي يضمن الحرية والمساواة والعدلة الاجتماعية، وللإشارة فإن ما يميز النظام البرلمان هو ارتكازه على مبدأ الفصل بين السلط. – وظيفة الإدراك: يقول جان بيشلر:”الإيديولوجيا لصيقة بالسياسة” وبالتالي يجب على الفاعل السياسي أن يوظف الإيديولوجيا كآلية لإدراك الواقع الاجتماعي كواقع حقيقي حتى يتسنى له اختيار نمط الحكم المناسب للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في المجتمع. إذن بيشلر يتكلم عن الإيديولوجيا كطريقة أو منهج مساعد على بناء فهم سليم وواقعي للمجتمع قبل الانتقال إلى اختيار نوع الحكم أو نوع السلطة السياسية الملائمة لخصائصه كما تكلم عن ذلك عالم الاجتماع ماكس فيبر. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ماهي الآليات أو الأجهزة الإيديولوجية التي يمكن الارتكاز عليها لأجرأة أو تفعيل الوظائف الإيديولوجية؟
من أجل بناء تصور متكامل حول مفهوم الإيديولوجيا وما يطرحه من تساؤلات، اكتشفنا مع الفيلسوف الفرنسي المعاصر لويس ألتوسير(Louis Althusser) ، من موقع تجربته الفكرية وانشغاله بالعمل السياسي في الحزب الشيوعي الفرنسي، بأنه لا يمكن أجرأة وتفعيل الوظائف الإيديولوجية المتنوعة التي تحدث عنها العديد من المفكرين والباحثين إلا من خلال “الأجهزة الإيدولوجية التي تعادل أو تتجاوز الأجهزة القمعية في الأهمية على مستوى ممارسة السلطة السياسية، وتتجسد هذه الآليات التي تِؤدي الوظائف الإيديولوجية مثل وظيفة التعبئة والإدماج في الأجهزة المبينة في الجدول أسفله”:

نوع الجهاز الإيديولوجي
مؤسساته وأنشطتها
الجهاز الإيديولوجي الديني
يرتبط بما تقدمه أو تمرره المؤسسات الدينية من أفكار وتصورات لأفراد المجتمع، وتدخل في هذا الباب الكنائس والمساجد والزوايا…
الجهاز الإيديولوجي التربوي و الثقافي
يتجسد فيما تقدمه المؤسسات التربوية التأطيرية من معارف وقيم ومهارات، ويمكن الحديث هنا عن المدارس والجامعات وباقي المؤسسات التي تهتم بالعمل التربوي والتكويني …
الجهاز الإيديولوجي السياسي
يتمثل فيما يقوم به النظام السياسي والأحزاب السياسية من تأطير وتكوين للمنخرطين في العمل السياسي بغرض إدماجهم وتأهيلهم على مستوى تدبير الشأن العام.
الجهاز الإيديولوجي الإعلامي
يتعلق الأمرهنا بكل ما تقدمه مختلف وسائل الإعلام من أنشطة ثقافية وفنية وإعلامية للأفراد والجماعات، ومن أبرز هذه الوسائل: الصحف الإليكترونية والإذاعة والتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي الحديثة.

خبار عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق