نقديات الجمعة: كلمات منقوشة بأحرف من نار…

saidchanoukome22 أبريل 2022آخر تحديث : منذ سنتين
saidchanoukome
أخبارثقافة وفن
نقديات الجمعة: كلمات منقوشة بأحرف من نار…

بقلم ناصر الحرشيFB IMG 1650626854404 - شأنكم Tv

في الآونة الاخيرة قرات ثلاث كتب لبلزاك الذي مات في الواحد و الخمسين من عمره كتب ما يقرب من خمسين رواية و مجموعة قصصية . لم يكن لديه متسع من الوقت يكفي لاحتواء هذا السهل الهائل من الكلمات بين دفات الكتب . فكان ينام معظم النهار ليكتب طيلة الليل كشهرزاد و هي تحكي . وفي رواية ( خيالات ضائعة ) و هي اطول رواياته اطلاقا , نجد على الاقل بطل واحدا من ابطالها العدة و هو يصر على مثل هده المسابقة العنيدة , متابعة اختراعه ورقا جيدا للطباعة سنة بعد سنة و هو يصهر العمر و الحياة و لا ينتهي اصراره و ملاحقته هدا الاختراع الذي في النهاية يستغله غرماؤه و قد اوقع به ارباب الاعمال و رجال القانون بألاعيبهم واحابيلهم . ولا يهتم ( داوود سيشار ) بطل هذه الرواية لذلك كله . فهو من الناحية العملية ساذج سذاجة بلزاك نفسه الذي طوحت به اطماعه في عالم الطباعة في مثل هذه النهاية اللا مجدية . ولكن الجدوى هي في هده الملاحقة المستمرة للخيال المغري و الكلمات تتهاوى من بلزاك انتقاما من الذين قهروه في حياة المال و المادة . صفحة اثر صفحة و هو يصور اللؤم الانساني المستغل للقيم . و الطريف ان عاشق الكلمات في الرواية هو الشاعر ( لوسيان ) اخو زوجة (سيشار) الذي تحمله الفاظه السحرية من حضيض الريف و بلاهة الحقول الى احضان السيدة ( دوبارجتون) و معها الى باريس ومنها الى الخسارة و الاملاق . اذ يكون المجتمع له بالمرصاد مما يجعله عالة على ممثلة , ثم الى محاولة الانتحار . الى ان يعثر عليه و ينقذه ذلك الدبلوماسي الاسباني راهب طليطلة الذي يأخذه في عربة و يطلعه بفصاحة عن دسائس الحكم و على تناقضات المجتمع التي لابد من فهمها ثم الحصول على الدوقة المرجوة . اكاد اجزم ان هدا الراهب الداهية هوالاصل في شخصية (المفتش الاعظم ) في رواية دستويفسكي ( الاخوة كرامزوف ) . ولئن اخفق ( لوسيان ) في الحصول على الدوقة , فقد افلح بلزاك بعد خوض بحار من كلمات لسنين عديدة من حياته في الزواج من النبيلة البولونية السيدة ( هانكا ). ولكن لم يكتب له هناء طويل اذ مات بعد الزواج بأشهر خمسة. .
و في رواية ستندال ( شارتروز دو بارم 1839 ) هذا البحر المتلاطم من الكلمات الذي يصور الحياة في دويلة من دويلات ايطاليا . قد تعد نموذجا لأية دولة كبرى , الامير , الوزير , العشيقات , الثائرون الجمهوريون , العملاء , الجواسيس و السجون . انها صورة عاجة بكل قضايا الحكم . و هي في مضامينها الاساسية مازالت جزأ من عصرنا الراهن بما فيها هدا التناقض بين عقائد المرء و علاقاته الشخصية النفعية . وهي ان يكن بطلها الشاب الثائر ( فابريزيو د نفو ) فان البطولة بمعناها الروائي الدينامي موزعة على رجال و نساء كثيرين منهم الوزير الداهية ( الكونت موسكا ) وكأنك ترى دخائل الداهية السياسي النمساوي ( ميترنيخ ) عراب الحلف المقدس ضد( بونابرت ) . و عشيقته ( جينا سان سفرينا ) وهي تداري حبها ( للكونت موسكا ) دعامة الحكم بهذه الدويلة من ناحية , ولابن اخيها ( فابريزيو ) المتمرد على الحكم من ناحية اخرى . و حاكم بارما الامير ( ارنستوا الرابع ) و هو امير ميكيافلي من الراس حتى القدم . و ( كيليليا ) تلك الفتاة المعذبة التي تطوي ضلوعها على حبها المقهور الصامت ( لفابريزيو ) فهي رغم ذلك تنقذه من السجن و يكاد يكون ابوها هو الضحية . ثم هناك الشاعر الثائر ( فرانتا بيلا ) الذي يشعل الثورة و يصرف عليها من مال الدوقة ( جينا ) خليلة الوزير ( موسكا ) و يختبئ في بيتها كل ما اقتضى ذلك نشاطه الثوري . ( فابريزيو) يصل بين هذه الاطراف و عشرات الاطراف الاخرى بشخصيته القلقة المحمومة و الكلمات تنساب و تتواثب مرة اخرى تواثب هذا المتمرد على الامير. حيث يتمثل البغي في نعومة الالفاظ و المداهنة و النفاق المعسول و وراءها تكمن القسوة والدسيسة ثم القتل . كان ستندال نفسه لا يحب من الكلمات الا ابسطها و اكثرها مباشرة . يلعب بها لعب الساحر و يرسم بها صورة لدهاء الحكام و حقاراتهم ثم دهاء المتمردين و خستهم . و هو واقعي في تفاصيله حيث يبدو معاصره بلزاك و ان كان موغلا في الواقعية رومانسيا في عواطفه , حيث يذرف البطل العاشق لديه كلما اخفق سيلا من الدموع . مع ان هذا الاخير كان معنيا بتصوير حياة الريف و حياه المدينة و كذا الحياة الفلسفية في رواياته التي اطلق عليها اسم ( الكوميديا الانسانية ) . اما ستندال الدبلوماسي المحترف فمع ان موضوعه يشبه قلاعا رهيبة و قصورا و مؤامرات و دسائس كلها رومانسية الروح فإنه يزم على عواطفه و يسيرها بقبضة رجل لا تخدعه الحياة لحظة واحدة . و قد قارنه بلزاك امتداحا بوولتر سكوت فثارت ثائرته على هذه المقارنة ناعتا سكوت بالبلادة و الكلام الاجوف . بين طرفي بلزاك و ستندال نرى الكاتب الفرنسي تيوفيل غوتييه وهو يكتب في شبابه في سن الرابعة و العشرين رواية ( مدموازيل دو موبان 1835 ) . انها رواية المرأة الفاتنة بصورها العديدة من الشيطان الى الملاك و ان يكن اميل الى شيطانيتها الناعمة الخطرة و اللذيذة . و ( مادلين دي موبان ) هذه البطلة الفاتنة تتنكر في كل زي . لاسيما زي الرجال و توحي بشتى انواع الحب . اذ لا حياء في الحب عند غوتييه . الحب لديه شبق كما هو ضرب من ضروب الصوفية و التجلي العرفاني . فقد كان غوتييه من اول عهده من رواد الرومانسية الفرنسية . بعدهم بقليل في الطرف الاخر من المحيط الاطلسي نرى شابا اخر قضى اول الصبا بحارا يجوب الافاق بين جزر المحيط شمالا و جنوبا . يخلق هو ايضا حبالا من الكلمات الرهيبة كالبحار الذي جابها في الشتاء ات المظلمة. انه هرمان ميلفل صاحب الرائعة ( موبي دك ) او الحوت ( 1851 ). كانت اول عبارة وصف بها بطله ( اسماعيل ) هي جواب الافاق و الاب المثالي لذرية انتشرت عبر الارض . و ( اسماعيل ) اذ يجوب الافاق يريد تطهيرها من رجسها الكامن فيها . انه يراقب الكابتن ( اهاب ) وهو مساعد البطل ( اسماعيل ) في بحته الدؤوب عن الحوت الابيض الذي يمثل الشر و يجعل من ( اهاب ) رجلا عبوسا و متجهما قليل الكلام . واذ نطق فانه يفجر دماميل الرعب في كيان البشر ية . و هرمان ميلفل يقتادنا جميعا مع (اسماعيل ) و ( اهاب ) هذا الربان الشجاع حتى النخاع عبر اوقيانوس الالفاظ و الرموز وهو رمز للتضحية و الفداء من اجل بناء مجتمع تعمره القيم الحميدة . كما ان اسماعيل رمز لبقاء الذرية الصالحة و استمرارها . فقد عبر
( اهاب ) بحار الدنيا لينازل الحوت الابيض و لن يكون الصراع سهلا . انه صراع يحتدم لأيام ثلاثة بلياليها و اذا ما انتهى بعد لأي و كفاح إلى انتصار الانسان , يكون هذا الانتصار فاجعا. اذ يحطم الحوت السفينة الصغيرة و يلقيها بربانها الشامخ و كل من عليها من رجال الا ( اسماعيل ) لابد له من نجاة حتى تستمر الذرية . و كاتب اخر استبدت به حمى الكلمات الى درجة الاعجاز . انه دوستويفسكي . كم من الكلمات كتبها صاحب ( الجريمة و العقاب ) ثم من الشخصيات التي رسمها و هي تقارع مصائرها العاتية. حتى رواية ( الابله ) مثلا في حوالي الف صفحة كتبها و هو في المنفى متنقلا من بلد الى بلد و قد هرب من روسيا التي يحبها . حيث حاصر نفسه في غرفة بفندق وهو يكتبها عن انسان كامل سماه بالأبله . يقول دوستويفسكي ( انهيت رواية الابله وقد تحول راسي الى طاحونة هواء لست ادري كيف نجوت من الجنون ) ان هذا الممسوس بالعبقرية كان يكتب بغزارة و دون انقطاع وهو يستدين من اصدقائه . فقد عانى من نوبات الصرع قبل الشروع في كتابتها و قد تكررت عليه هذه النوبات بأفدح مما يطيقه انسان . يكاد المرء يعجز عن حصر هذه التجربة المذهلة و المعقدة في تصوير البراءة, التمرد, البؤس, العشق, النذالة, الخوف… انها صورة المسيح من جديد في عالم لم يعد يستطيع تحمل المحبة و التضحية و لم يعد يؤمن بها كما ينبغي . فالطبقة الأرستقراطية و زمرة الجنرالات كانتا هدفا مرسوما بدقة لسهامه النقدية ذما و تحطيما. انه تجسيد لذلك الهوس الغامض المقدس الذي يجعل من الانسان مخلوقا يحار في سره القديسون كما كان يردد دوستوفسكي هذا الروائي العظيم حد الاسطورة.

خبار عاجل

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق